كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجواب عن هذا: أن العرب كانت ربّما جعلت اسم الرجل كنيته، فكانت الكنية هي الاسم.
قال أبو محمد: خبّرني غير واحد عن الأصمعي: أن أبا عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء أسماؤها كناهما.
وربما كان للرجل الاسم والكنية، فغلبت الكنية على الاسم، فلم يعرف إلا بها، كأبي سفيان، وأبي طالب، وأبي ذرّ، وأبي هريرة.
ولذلك كانوا يكتبون: علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان، لأن الكنية بكمالها صارت اسما، وحظّ كلّ حرف الرفع ما لم ينصبه أو يجرّه حرف من الأدوات أو الأفعال. فكأنه حين كنّي قيل: أبو طالب، ثم ترك ذلك كهيئته، وجعل الاسمان واحدا.
وقد روي في الحديث أن اسم أبي لهب عبد العزّى، فإن كان هذا صحيحا فكيف يذكره رسول اللّه بهذا الاسم، وفيه معنى الشرك والكذب، لأن الناس جميعا عبيد اللّه؟.
وقال المفسرون في قول اللّه عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)} [الأعراف: 189]-: إن حوّاء لما أثقلت أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما هذا الذي في بطنك؟ وذلك أول حملها، فقالت: ما أدري، فقال لها: أرأيت إن دعوت ربي فولدته إنسانا أتسمّينه بي؟
فقالت: نعم. وقالت هي وآدم: {لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي: لئن خلقته بشرا مثلنا ولم تجعله بهيمة. فلما ولدته أتاها إبليس ليسألها الوفاء، فقالت: ما اسمك؟ قال: الحارث، فتسمى بغير اسمه، ولو تسمى باسمه لعرفته، فسمته عبد الحارث، فعاش أياما ثم مات، فقال اللّه تعالى: {فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما} [الأعراف: 190]، وإنما جعلا له الشرك بالتسمية لا بالنية والعقد، وانتهى الكلام في قصة آدم وحواء، ثم ذكر من أشرك به بالعقد والنّية من ذرّيتهما، فقال: {فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] ولو كان أراد آدم وحواء لقال: عما يشركان.
فهذا يدلّك على العموم.
وإن كان اسم أبي لهب كنيته فإنما ذكره بما لا يعرف إلا به، والاسم والكنية علمان يميّزان بين الأعيان والأشخاص، ولا يقعان لعلة في المسمى كما تقع الأوصاف، فبأيّ شيء عرف الرجل، جاز أن تذكره به غير أن تكذب في ذلك.
ولو كان من دعا أبا القاسم بأبي القاسم ولا قاسم له، كان كاذبا- لكان من دعا المسمى بكلب وقرد وغراب وذباب- كاذبا، لأنه ليس كما ذكر.
وقد طعنت الشّعوبية على العرب بأمثال هذه الأسماء، ونسبوهم إلى سوء الاختيار، وجهلوا معانيهم فيها.
وكان القوم يتفاءلون ويتطيّرون، فمن تسمى منهم بالأسماء الحسنى أراد أن يكثر له الفأل بالحسن، ومن تسمّى بقبيح الأسماء أراد صرف الشرّ عن نفسه.
وذلك أن العرب كانت إذا خرجت للمغار قالوا: إلى من تقصد؟ فتطيروا من كلب وجعل وقرد ونمر وأسد، وقالوا: ميلوا بنا إلى بني سعد وإلى غنم وما أشبه ذلك.
ومن الكناية قول اللّه عز وجل: {يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا (28)} [الفرقان: 28].
ذهب هؤلاء وفريق من المتسمّين بالمسلمين إلى أنه رجل بعينه.
وقالوا: لم كنى عنه؟ وإنما يكني هذه الكناية من يخاف المباداة، ويحتاج إلى المداجاة.
وقال آخرون: بل كان هذا الرجل مسمّى في هذا الموضع، فغيّر وكني عنه.
وذهبوا إلى أنه عمر، وتأوّلوا الآية فقالوا: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] يعني أبا بكر رضي اللّه عنه.
{يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27] يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلم.
{يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا (28)} يعني عمر رضي اللّه عنه.
{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي} [الفرقان: 29] يعني عليا.
قال أبو محمد: ونقول في الرد على أولئك إذ كان غلطهم من وجهة قد يغلظ في مثلها من رق علمه. فأما هؤلاء ففي قولهم ما أنبأ عن نفسه، ودلّ على جهل متأوّله كيف يكون عليّ رحمة اللّه عليه، ذكرا؟.
وهل قال أحد: إن أبا بكر لم يسلم، ولم يتخذ بإسلامه مع الرسول سبيلا؟.
وليس هذا التفسير بنكر من تفسيرهم وما يدّعونه من علم الباطن كادّعائهم في الجبت والطّاغوت أنهما رجلان.
وأن الخمر والميسر رجلان آخران.
وأن العنكبوت غير العنكبوت والنحل غير النحل. في أشباه كثيرة من سخفهم وجهالاتهم.
وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية: إنّ عقبة بن أبي معيط صنع طعاما ودعا أشراف أهل مكة، فكان رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلم فيهم، فامتنع من أن يطعم أو يشهد عقبة بشهادة الحقّ، ففعل ذلك، فأتاه أبيّ بن خلف، وكان خليله، فقال: صبأت؟ فقال: لا ولكن دخل عليّ رجل من قريش فاستحييت من أن يخرج من منزلي ولم يطعم.
فقال: ما كنت لأرضى حتى تبصق في وجهه وتفعل به وتفعل، ففعل ذلك، فأنزل اللّه هذه الآية عامة، وهذان الرجلان سبب نزولها.
كما أنه قد كانت الآية، والآي، تنزل في القصة تقع: وهي لجماعة الناس.
والمفسرون على أن هذه الآية نزلت في هذين الرجلين، وإنما يختلفون في ألفاظ القصة.
فأراد اللّه سبحانه ب الظالم كل ظالم في العالم، وأراد بفلان كل من أطيع بمعصية اللّه وأرضي بإسخاط اللّه.
ولو نزلت هذه الآية على تقديرهم فقال: ويوم يعضّ الظالم- قارون وهامان، وعقبة بن أبي معيط، وأبيّ بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والمغيرة، وفلان وفلان، بالأسماء- على أيديهم يقولون: يا ليتنا لم نتخذ فرعون، ونمرود، وعقبة بن أبي معيط، وأبا جهل، والأسود، وفلانا، وفلانا بالأسماء- لطال هذا وكثر وثقل، ولم يدخل فيه من تأخّر بعد نزول القرآن من هذا الصّنف، وخرج عن مذاهب العرب، بل عن مذاهب الناس جميعا في كلامهم.
فكان فلان كناية عن جماعة هذه الأسماء.
وقد يقول القائل: ما جاءك إلا فلان بن فلان، يريد أشراف الناس المعروفين، والشاعر يقول:
في لجّة أمسك فلانا عن فل

يريد: أمسك فلانا عن فلان، ولم يرد رجلين بأعيانهما، وإنما أراد أنهم في غمرة الشّر وضحجّته، فالحجزة تقول لهذا: أمسك، ولهذ: كفّ.
والظالم دليل على جماعة الظالمين كقوله: {يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا} [النبأ: 40] يريد جماعة الكافرين.
ومن هذا الباب التعريض.
والعرب تستعمله في كلامها كثيرا، فتبلغ إرادتها بوجه هو ألطف وأحسن من الكشف والتصريح، ويعيبون الرجل إذا كان يكاشف في كل شيء ويقولون:
لا يحسن التّعريض إلّا ثلبا وقد جعله اللّه في خطبة النساء في عدّتهنّ جائزا فقال: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] ولم يجز التصريح.
والتعريض في الخطبة: أن يقول الرجل للمرأة: واللّه إنك لجميلة، ولعل اللّه أن يرزقك بعلا صالحا، وإن النساء لمن حاجتني، هذا وأشباهه من الكلام.
وروى بعض أصحاب اللغة أن قوما من الأعراب خرجوا يمتارون فلما صدروا خالف رجل في بعض الليل إلى عكم صاحبه فأخذ منه برّا وجعله في عكمه، فلما أراد الرحلة قاما يتعاكمان فرأى عكمه يشول وعكم صاحبه يثقل، فأنشأ يقول:
عكم تغشّى بعض أعكام القوم ** لم أر عكما سارقا قبل اليوم

فخوّن صاحبه بوجه هو ألطف من التصريح.
وروي في بعض الحديث: أن رجلا كتب إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، من مغزّى كان فيه:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ** فدىّ لك- من أخي ثقة- إزاري

قلائصنا هداك اللّه إنا ** شغلنا عنكم زمن الحصار

فما قلص وجدن معقّلات ** قفا سلع بمختلف النّجار

يعقّلهنّ جعد شيظميّ ** وبئس معقّل الذّود الظّؤار

قال أبو محمد:
وقد ذكرت الحديث والتفسير وطريقه في كتاب غريب الحديث.
وإنما كنى بالقلص- وهي: النّوق الشّوابّ- عن النساء وعرّض برجل يقال له:
جعدة كان يخالف إلى المغيّبات من النساء، ففهم عمر، رضي اللّه عنه ما أراد، وجلد جعدة ونفاه.
وقال عنترة:
يا شاة ما قنص لمن حلّت له ** حرمت عليّ وليتها لم تحرم

يعرّضبجارية، يقول: أيّ صيد أنت لمن حلّ له أن يصيدك، فأمّا أنا فإنّ حرمة الجوار قد حرّمتك عليّ.
وقد جاء في القرآن التعريض:
فمن ذلك ما خبّر اللّه سبحانه من نبإ الخصم {إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} [ص: 22]. ثم قال: {إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} (23) [ص: 23].
إنما هو مثل ضربه اللّه سبحانه له، ونبهه على خطيئته به.
وورّى عن النساء بذكر النّعاج، كما كنى الشاعر عن جارية بشاة، وكنى الآخر عن النساء بالقلص.
وروى المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول اللّه سبحانه، حكاية عن موسى صلّى اللّه عليه وسلم: {لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ} [الكهف: 73]: لم ينس ولكنها من معاريض الكلام.
أراد ابن عباس أنه لم يقل: إني نسيت فيكون كاذبا، ولكنه قال: {لا تؤاخذني بما نسيت}، فأوهمه النسيان، ولم ينس ولم يكذب.
ولهذا قيل: إن في المعاريض عن الكذب لمندوحة.
ومنه قول إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] أي سأسقم، لأن من كتب عليه الموت، فلابد من أن يسقم.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30] أي: ستموت ويموتون.
فأوهمهم إبراهيم بمعاريض الكلام أنه سقيم عليل، ولم يكن عليلا سقيما، ولا كاذبا.
وكذلك ما روي في الحديث من قوله حين خاف على نفسه وامرأته: «إنها أختي» لأن بني آدم يرجعون إلى أبوين، فهم إخوة، ولأن المؤمنين إخوة، قال اللّه عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وكذلك قوله: {قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)} [الأنبياء: 63]. أراد: بل فعله الكبير، إن كانوا ينطقون فسلوهم، فجعل النطق شرطا للفعل، أي إن كانوا ينطقون فقد فعله، وهو لا يعقل ولا ينطق.
وقد روي عن النبي، صلّى اللّه عليه وسلم: «إنّ إبراهيم كذب ثلاث كذبات ما منها واحدة إلا وهو يماحل بها عن الإسلام».
فسمّاها كذبات، لأنها شاكهت الكذب وضارعته.